لحظة جنون .. مع شنكوح
الصورة: ترفق لاحقاً
(3)
دعي شنكوح ذات مساء ربيعي لمجلس شراب في غرفة الشاعر فهد العسكر في سوق "واجف"، وقبل شنكوح الدعوة رغم أنه "بطّل" المشروبات الروحية مذ ذلك اليوم الذي وجد فيه نفسه ملقى على ضفاف نهر دجلة بعد أن قضى ليلة وردية مع "مُهَج" إحدى جواري "المتشبث بالكرسي" حفظه الله ورعاه.
وكانت مهَج متولعة بالحركة النسائية التحررية التي لم تحدث بعد، فكانت ترفض مسمى "جارية".. وطلبت من شنكوح في أكثر من مناسبة أن يسميها "المرأة الحرة المطيعة رغما عن أنفها" .. وكانت تطالب أيضاً بنقابة للجواري أو "النساء الأحرار المطيعات رغما عن أنوفهن" ..وتحقق حلم "مهَج" ولكنها( أي النقابة) ما برحت حتى سيطر عليها حزب "الجاريات الراضيات القانعات" المحافظ الذي حافظ على قيادة النقابة لخمس وعشرين عاما رفعوا فيها المعاشات وأكثروا من توزيع الفساتين وأحرقوا الكتب حتى يسيطروا إلى الأبد..
وفي تلك الليلة الوردية شكت "مهَج" لشنكوح مأساتها السوسيوإجتماعية، وقد كان شنكوح وقتها مخموراً لدرجة أنه كان يتحدث الآرامية مع أطفال أيتام في أورفليس.. وبينما كانت مهج تشكي لشنكوح قال لها: "بالله يا معذبتي .. جودي بأخرى أقضي بها أربي .. يا أيتها الجارية !!" وعندها غضبت مهَج غضباً جماً وطلبت من "ادريس" و"بندر" (حراص القصر) أن يرموه إلى ما وراء الضفة الأخرى من النهر.
ورغم ما قاساه شنكوح من مرارة الكأس وهفوة السكر، قَبل شنكوح دعوة العسكر وامتطى فرسه الصهباء وقصد غرفة العسكر في سوق" واجف"، وقبل أن يدخل قرأ على الحائط جدارية مكتوب عليها:
((يا واقف بسوق "واجف"
لا تظن انك بوقوفك واقف
الناس حولك غربان وذيابة
وكل منهم واقف
الزين بهالبلد قاعد
والشين شوفه واقف
الناس قعود .. يا فهد
وأنت اللي بس واقف!!))
فدخل شنكوح الغرفة وإذا بالنور منطفئ وإذا بالشموع تستعر وإذا بفهدٍ جالس و بابراهيم ناجي مولعاً سيجاراً كوبياً ً .. وكانا يعيشان معاً لحظة تراجيدية بائسة لا تنسى.. ناجي يتكلم وفهد يطبطب على يده اليمنى..
((آه من وجدك بالهاجر آه .. تتمنى أن تراه ))
فيرددان معاً:
((لن تراه !!))
فرفع ناجي "كمّ" جلبابه ليفضح عن رسم منقوش على كتفه الأيسر..
((انظر هذا اسمها محفورٌ في جسمي))
فصرخ فهد بعدما أبصر لدقائق :
((ويحك، ما هذا يا ناجي؟!))
فردّ (( هذا تاتو عملته في إحدى مدن ولاية داكوتا الشمالية .. لم أشعر بأي ألم والنار تحفر في كتفي فكنت أصرخ باسم حبيبتي لأخفف الألم وأقول "مي .. مي" .. ولكن "مغايفر" (رسام التاتو) قبح الله وجهه أخطأ فحفر تنين تايلاندي يلتهم محارب ساموراي بدلا من اسمها الجميل))
فأراد شنكوح أن يهدأ الجو قليلاً فقاطعهم وقال:
((هات بنت النخل يا بن العسكرِ ... لا يطاق الصحو في ذا البلد))
فكركر العسكر كركرة البؤساء وأعطاه كأساً وقال:
((ألم "تبطّل" الشراب يا شنكوح؟))
فقال: (( بلى، حتى بعث لي الخيام برقية بعد أن أبلغته بتوبتي النصوح ودعوته للوقوف عن ارتشاف المدام .. وكانت البرقية تحمل في بطنها رباعية لعمر يقول فيها:
يا تارك الخمرة لا تلمني
دعني إلى ربي الغفور الرحيم
ولا تفاخرني بهجر الطلا
فأنت جانٍ في سواها أثيم
وبعدها غيرت رأيي .. وها أنا ذا أمد يدي لآخذ الكأس منك))
فقال فهد وهو يحك شاربه :
((كفو))
وفي الزاوية البعيدة لمح شنكوح ناجي يندب ويبكي .. فصرخ به شنكوح : (( خلاص .. يا ناجي، يا حبيبي .. إنساها))
فرد عليه ناجي وشفتاه ترتجفان كأغصان الشجر في يوم خريف عاصف:
((لست أنساك وقد أغريتني بفم عذب المناداة رقيق ))
واستمر في هذيانه ثم تمتم:
((ليت شعري أين منه مهربي .. أين يمضي هارب من دمه))
وحينها قرر شنكوح أن يرحل .. فهو لا يحتمل المآسي والتراجيديا والجلسات التي تقطر بؤسا ويأسا .. فهو شنكوح العايش على الأمل والطموح، فقرر أن يتركهم .. وامتطى فرسه الصهباء التي كانت دائماً تنظر إلى السماء لشدة تفاؤلها، وكان يدلعها "سكرة" لأنها كانت غليظة السواد ولا تشبه السكر أبداً. فشنكوح يحب التناقضات والأشياء التي لا تفسر .. وهكذا ركب شنكوح "سكرة" وغادر ..
وهنا نكتفي وسنكمل فيما بعد المشوار مع شنكوح ..