أمل دنقل
1940-1983
______________
بما أن العقل والابداع في حالة بلوك جبري، فسألجأ إلى النقل والإملاء في المواضيع الآتية حتى لا تموت المدونة، ولا يتكسر قفص التحليق..(ملاحظة-الموضوع طويل)
أمل دنقل
ذاك الشاعر المصري المفتون بذات العينين الخضراوين، لن أتحدث عن سيرته وحياته، وسأبتعد في عن أشعاره السياسية المليئة بالايحاءات التاريخية.
لنبدأ النقل:
عرفتني بهذا الشاعر أمي من فترة طويلة حين قرأت لي ديباجته التي تقول:
آه ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر .. كي نثقب ثغرة
ليمر النور للأجيال .. مرة !
ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !!
ومن بعدها انفلت شغفي بهذا الشاعر المصري، وفتنت به وبشعره، وبرائحة نصه
يقول أمل دنقل في مطلع قصيدة براءة
أحس حيال عينيك
بشيء داخلي يبكي
فتنني دنقل بهذا المطلع، أحس حيال عينيك بشيء داخلي يبكي! رائع. لا حاجة لإكمال باقي القصيدة. تماماً كأغنية محمد عبده التي تقول "محتاج لها" العنوان أغنية بكاملها.
وأيضاً مطلع قصيدة "كريسماس" ذكي جداً
يقول دنقل:
إثنان لم يحتفلا بعيد ميلاد المسيح:
أنا .. والمسيح !
إليكم بعض القصائد التي اخترتها من ديوانه:
العينان الخضراوان
العينيان الخضراوان
مروحتان
في أروقة الصيف الحران
أغنيتان مسافرتان
أبحرتا من نايات الرعيان
بعبير حنان
بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان
سنتان
وأنا أبني زورق حب
يمتد عليه من الشوق شراعان
كي أبحر في العينين الصافيتين
إلى جزر المرجان
ما أحلى أن يضطرب الموج فينسدل الجفنان
وأنا أبحث عن مجداف
عن إيمان!
***
في صمت الكاتدرائيات الوسنان
صور للعذراء المسبلة الأجفان
يا من أرضعت الحب صلاة الغفران
وتمطي في عينيك المسبلتان
شباب الحرمان
ردي جفنيك
لأبصر في عينيك الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن حب
عن ذكرى
عن نسيان!
قلبي حرّان، حرّان
والعينان الخضراوان
مروحتان!
طفلتها
(طويلة، لكنها رائعة!ً) من ديوان مقتل القمر
(مرت خمس سنوات على الوداع وفجأة.. رأى طفلتها!)
لا تفّري من يدي مختبئة
.. خبت النار بجوف المدفأة
أنا..
(لو تدرين)
من كنتِ له طفله
لولا زمان فجأة
كان في كفي ما ضيعته
في وعود الكلمات المرجأة
كان في حبي لم أدر به
.. أو يدري البحر قدر اللؤلؤة؟
إنما عمرك عمر ضائع من شبابي
في الدروب المخطئة
كلما فزت بعام
خسرت مهجتي عاماً
.. وأبقت صدأه
ثم لن نحمل من الماضي
سوى ذكريات في الأسى مهترئة
نتعزى بالدجى
إن الدجى للذي ضلّ مناه..
تكئه!!
***
العيون الواسعات الهادئة
والشفاه الحلوة الممتلئة:
فتنة طفلية
أذكرها
وهي عن سبعة عشر منبئة
إنني أعرفها
فاقتربي
فكلانا في طريق أخطأه
ساقني حمقي
وفي حلقي مرارة شوق
وأمان صدئه
فابسمي يا طفلتي
(منذ مضت... وابتسامات الضحى منطفئة)
ثرثري
(صوتك موسيقى حكت صوتها ذا النبرات المدفئة)
_((احكِ لي أحجيّة))
-لم يبق في جعبتي
غير الحكايا السيئة
فاسمعيها يا ابنتي مسرعةً
عبرت فيها الليالي.. مبطئة
.......................
((كان يا ما كان))
أنه كان فتى
لم يكن يملك إلا .. مبدأه
وفتاة ذات ثغر يشتهي قبلة الشمس
ليروي ظمأه
خفق الحب بها، فاستسلمت
وسرى الحب به، فاستمرأه
بهما قد صعدت مركبه للضحى
في قصة مبتدئة
وهو في شرفته مرتقب وهي في شباكها.. متكئة
نغمٌ منقسمٌ
لا ينتهي حلمٌ
إلا وحلم بدأه
صعدا
سلمة..ً
سلمةً..
في قصور الأمنيات المنشأة
لم تكن تملك إلا طهرها
لم يكن يملك إلا مبدأه
***
ذات يوم
كان أن شاهدها
من له أن يشتري نصف امرأة
حينما أوما لها مبتسماً
فأشاحت عنه
كالمستهزئة
اشتراها في الدجى
صاغرة
زفت السبعة عشر.. للمئة
لم يكن شاعرها فارسها
لم يكن يملك إلا ..
التهنئة
لم يكن يملك إلا مبدأه
ليس إلا..
كلمات مطفأة
***
أترى تدرين من كان الفتى؟
فهو يدري الآن يدري خطأهَ!
والتي بيعت وفي معصمها الوشم
فاعتاد الفؤاد الطأطأة؟!
ومن النخاس؟
هل تدرينه؟
وهو ملاح تناسى مرفأه
انني أكرهه
يكرهه ضوء مصباح نبيل أطفأه
غير أن الحقد..
(يا طفلتها)
كان في صوتك شيء.. رقأه
والمسيح المرتجى: قاتله
كان في عينيك عذر برّأه!
والذي ضاع من العمر سدى
جسدت فيك الليالي نبأه
***
من لتنهيد عذاب محرق
كلما داويت جرحاً، نكأه
فابسمي يا طفلتي
منذ مضت..
وابتسامات الضحى منطفئة
إنما العمر هباء
من سوى طفلة مثلك
تجلو صدأه!
@ @ @
شبيهتها
انتظري!
ما اسمك ؟
يا ذات العيون الخضر والشعر الثري
أشبهبت في تصوري
(بوجهك المدوّر)
حبيبة أذكرها .. أكثر من تذكري
يا صورة لها على المرآة، لم تنكسرِ
حبيبتي –مثلك-
لم تشبه جميع البشر
عيونها حدائق حافلة بالصورِ
أبصرتها اليوم بعينيك
اللتين صُبّتا في عمري ..
طفولة .. منذ اتزان الخطو لم تنحسر
يا ظل صيف أخضر
تصوري
كم أشهر وأشهر
مرت ولسنا نلتقي
مرت .. ولم نخضوضر
الماس في مناجمي
مشوه التبلورِ
والذكريات في دمي
عاصفة التحرر
كرقصة نارية من فتيات الغجر
............................
لكنني حين رأيت الآن صورة لها
في مهجري
أيقنت أن ماسنا ما زال
حيّ الجوهر
وأننا سنلتقي ..
رغم رياح القدر
وأنني في فمك المستضحك المستبشر
أغنية للقمر
أغنية ترقص فيها القرويات
في ليالي السمر
يا ظل صيف أخضر
تصوّري
شكم أشهر وأشهر
مغترباً عن العيون الخضر والشعر الثري
صفحات من كتاب الصيف والشتاء
حمامة
حين سَرَت في الشارع الضوضاء
واندفعت سيارة مجنونة السائق
تطلق صوت بوقها الزاعق
في كبد الأشياء:
تفزَّعَت حمامة بيضاء
(كانت على تمثال نهضة مصر..
تحلمُ في استرخاء)
...................
طارت، وحطّت فوق قبّة الجامعة النحاس
لاهثة، تلتقط الأنفاس
وفجأة: دندنت الساعة
ودقت الأجراس
فحلقّت في الأفقِ .. مرتاعة!
...................
أيتها الحمامة التي استقرّت
فوق رأس الجسر
(وعندما أدار شرطي المرور يده..
ظنته ناطوراً .. يصدُّ الطير
فامتلأت رعباً)
أيتها الحمامة التعبى:
دوري على قباب هذه المدينة الحزينة
وأنشدي للموت فيها.. والأسى .. والذعر
حتى نرى عند قدوم الفجر
جناحك الملقى..
على قاعدة التمثال في المدينة
..وترفعين راحة السكينة!
@ @ @
في أيامه الأخيرة عانى دنقل من مرض السرطان الذي أودى بحياته، وفي تلك الفترة كتب الكثير من الشعر في الموت والمرض في ديوان غرفة رقم 8، في 1983 وهي سنة وفاته.
ومن أجمل القصائد قصيدة "زهور" حيث تتحدث له الزهرات الجميلة عن ساعة اعدامها لحظة القصف\القطف.
زهور
و سلال من الورد
ألمحها بين إغفاءة و إفاقه
و على كل باقة
اسم حاملها في بطاقة
***
تتحدث لي الزهرات
الجميلة
أن أعينها اتسعت –دهشة-
لحظة القطف
لحظة القصف
لحظة اعدامها في الخميلة
***
تتحدث لي
أنها سقطت من على عرشها في البساتين
ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين
أو بين أيدي المنادين
حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة
***
تتحدث لي
كيف جاءت إلي ( و أحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر)
كي تتمنى لي العمر
و هي تجود بأنفاسها الآخرة !!
***
كل باقة
بين إغفاءة و افاقة
تتنفس مثلي -بالكاد- ثانية .. ثانية
و على صدرها حملت راضية
اسم قاتلها في بطاقة !!
أيضاً قصيدة "ضدّ من" التي يلخص دنقل فيها معاناة البشر بقوله "ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟"، في القصيدة يحتار دنقل بين السواد والبياض ومدلولاتهما وهو على سرير الموت والمرض، ولكنه يستقر مؤخراً على لون الحقيقة.. لون تراب الوطن.
ضدّ من
في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض
تاج الحكيمات أبيض
الملاءات
لون الأسرة , أربطة الشاش والقطن
قرص المنوم , أنبوبة المصل
كوب اللبن .
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن
فلماذا إذا مت
ياتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد
هل لأن السواد
هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد الزمن
ضـــدّ من ؟
ومتى القلب في الخفقان اطمأن
بين لونين استقبل الأصدقاء
الذين يرون سريري قبرا
يرون حياتي دهرا
وأرى في العيون العميقة لون الحقيقة
لون تراب الوطن.