سنة أولى جامعة
بما ان مدونتي توشك على الانقراض، سأنشر شيء كتبته في 2005، ولم أشأ أن أغير فيه لذلك هو غير قابل للنقد
وصول
مع اقتراب موعد عودتي للكويت ورحيلي عن مدينتي العزيزة هنا في الولايات المتحدة الأميركية ، اشعر بأنني سأترك منطقة ساهمت في إعادة صياغتي كانسان، ومرحلة من عمري جعلتني أنظر في المرآة لأراني انساناً جديداً بإيجابيات جديدة وسلبيات قديمةً، وايجابيات قديمة وسلبيات جديدة. في هذه اللحظة أخرج بطاقتي الجامعية من محفظتي وأرفعها لأرى صورتي وأنا ابن الثامنة عشر، بشعري القديم الذي حلقه لي "فاروق" بدينار ونصف في الكويت، والابتسامة التي تقول: "أنا أعرف كل شيء"، وفانيلة أديداس ذات المقاس الصغير التي ما زلت أحتفظ فيها، والحمد لله أني حتى هذه اللحظة أستطيع أن ألبسها ولو أني ربما سأكون أقل ثقة عندما ألبسها. لم يتغير جسمي كثيراً منذ تلك الصورة، لكن ثمة أمور كثيرة تغيرت ...
استقبلني أبي الذي كان في انتظاري في مطار عاصمة ولايتي بعد قضاء الصيف بأحدى المناطق الأميركية مع العائلة. الطائرة الداخلية التي وصلت بي إلى مطار ولايتي كانت صغيرة للغاية، وقيل لي قبل الدخول بأن علي أن أضع آلتي الموسيقية العزيزة على قلبي في الشحن لأنني لا أستطيع أن أدخلها داخل الطائرة الصغيرة، على عكس رحلتي من الكويت في الخطوط الجوية الكويتية حيث قال لي المضيف أن أضع آلتي خلف أحد كراسي الدرجة الأولى، وأعتقد بأن الأمر لو كان بيده لطلب مني أن أعزف له و"نقلبها سمرة" بين الأرض والسماء.
كان هاجسي الوحيد، عندما وصلت لمطار ولايتي هو :"ان شاء الله ما اكسروا عودي، ان شاء ما كسروه! اذا كسروه بكسر راسهم!" لم أفكر قط بلقاء أبي، أو بأني أصل إلى الولاية التي سأقضي فيها أربع سنوات من عمري، وأنني سأبدأ مرحلة جديدة من حياتي في هذه الولاية، لم أفكر إلا بعودي "ان شاء الله ما يكسرونه".. فور وصولنا أخذت العود من الشحن وتأكدت بأنه على ما يرام، وإذا بأبي يطل علي من خلف زجاج قاعة الاستقبال، وقد لمحته مبتسماً وهو يراني أتطمن على عودي، كان ذلك كله قبل سبتمبر 11 حيث كانوا يسمحون لغير المسافرين بالدخول إلى قاعة المسافرين ، قبل سبتبمر 11 كان الوضع في المطارات يختلف تماماً عن الوضع الحالي، حتى دخولي عن طريق مطار شيكاغو كان سهل وسلس للغاية، سألوني أين ستذهب وقلت لهم اسم مدينتي في، وكان هذا كل ما كان علي أن أفعله، كانوا طيبيين وسلسيين لأقصى درجة ..
المهم أنني التقيت بأبي حينها، ولم أره منذ شهرين تقريباً لأنه وامي واخوي واختي وخالتي وابنائها كانوا في الولايات المتحدة في اجازة صيفية مع جدتي للعلاج آنذاك في إحدى الولايات الغربية. كان ذاك الصيف في الكويت بالنسبة لي رائع، لأن البيت كان لي والسيارة لي وحدي (حتى إني دعمت .. دعمني ادريس البنغالي، بكى كثيراً في المخفر عندما زعق عليه المحقق، ولكن قصة ادريس طويلة جداً وهذا ليس محلها) ، وكنت أفعل كل شيء ولا شيء في ذلك الصيف، والحقيقة أنني لا أتذكر بأنني فعلت شيئاً مهماً في ذلك الصيف غير إجراءات ما بعد التخرج من الثانوي والتعرف الحقيقي على كلمة بيروقراطية، ولذلك فقد كان مميزاً جداً.
ركبت السيارة التي اجّرها أبي وكان الطريق إلى منطقتي يبعد ساعة تقريباً عن المطار، واكتشفت بعدها أنه يبعد أربعون دقيقة بدون أبي، وكان الطريق إلى مدينتي مقفر ريفي لامباني ولا مدن، لم أر إلا حقول الذرة، وأشجار كثيفة قبل الوصول الى المنطقة بقليل. وصلنا الى الفندق وارتحنا ليلتها.
الجامعة
في اليوم الذي بعده تفقدنا الجامعة التي كانت جميلة للغاية وقد رأيت جامعات غيرها في السابق في مدن أخرى، لكنها حتماً في المراكز الأولى بالنسبة لي من الناحية الجمالية والنافورات والتماثيل والأنوار والديكور والأهم من كل هذا .. البنات، سبحان من صور، البنات في هذه المنطقة موضوع آخر يحتاج إلى تفصيل، الأغلبية شقراوات، والباقي خليط جميل من الألوان الجميلة الراقية،.. أربع سنين انتطالع بالعيون أنا وهم، أربع سنين وحكينا بالعيون، لا أنا أعرف من تكون ولا هي تعرف من أكون، وهذا اجمل شيء هنا، فقط تتمتع بالجمال في كل الفصول، ولا تحتاج مبرر ولا تحتاج ترقيعة للاستمتاع بالجمال، على عكس ما يفعله شباب الكويت، يذهب إلى مطعم مشهور بـ"القــز" كل اسبوع لكن إذا سئل لماذا يذهب، يقول "والله أحب شوربتهم!" يا حبيبي استريـــــح! ما فيها مشكلة أنك تروح للتمتع والنظر، فكنا في بعض الأحيان نذهب إلى المكتبة بلا كتب! ونذهب إلى المسبح بلا مايوه! (لابسين هدوم طبعاً) كان بيت المتنبي واقعاً حين يقول: "زودينا من حسن وجهك ما دام .. فحسن الوجوه حال تحول" وقد زودونا في كل أوقات السنة، حتى وقت الامتحانات.. بارك الله فيهم.
كان الأورينتشن orientation نقطة البداية لي حيث التقيت بالطلبة الآتين من خارج الولايات المتحدة، في أول يوم تعرفت على الكثـــــير، ولم أتذكر إلا القليل بعدها، حتى عندما خرجنا من الأورينتيشن لحقني طالب هندي وكان مرحاً للغاية،
سألني: ما اسمك؟
فأجبته: _ _ _ _
وانت؟
My name is Nitin, I am from Oman
نتن! هذا اسمه، وكدت أن أغلق أنفي قرفاً، خجلت أن أقول له معنى اسمه باللغة العربية ولكني لم أتمالك نفسي، الشاهد أن نتن والعشرين هندي وهندية أصبحوا أعز أصدقائي في أيامي الأولى في B-town، حتى أنني لعبت معاهم الكريكت مرة واحدة، وتأكدت بعدها بأنني لن ألعبها مرة أخرى. والهنود معاشرتهم حميمة، يحتفلون بأعياد ميلاد بعض بحماس ويطلقون ألقاب على بعض.
ثم التقيت بأبي الذي قال لي بأنه سيأخذني إلى مكان عجيب بعد جلسات الاورينتيشن، فذهبت معه واذا بالمكان العجيب هو مكتبة المدينة وهي تختلف عن مكتبة الجامعة. قال لي: "كل ما تريد أن تعرفه بالدنيا ستعرفه هنا"، في مكتبة هذه المدينة القابعة في وسط اللاشيء، أذكر بأنه أخرج كتاب ضخم بعنوان أودي (السيارة) ولا أعلم ان كان من باب المداعبة أو الصدق أو صدفة قربه من الرف وقال لي: "اذا عندك أودي واختربت كل شيء تبي تعرفه موجود بهذا الكتاب" فضحكت، ثم استمر في حديثه عن المكتبات وقال بأنه التقى بالأمس مع دكتور عراقي من قسم الدراسات الشرقية في الجامعة وقد درّس هذا الدكتور في أواخر الستينيات في جامعة الكويت، وقد حدثّه الدكتور بأن مكتبة الجامعة تحتوي على ما يقارب الـ150 ألف كتاب عربي، وأن طابقاً قد خصص للكتب العربية، ولا تزال كلمة أبي ترن في أذني حين قال:
"_ _ _ _ .. هذي فرصتك!"
نعم .. هي فرصتي، أو حتى أكون أدق، كانت فرصتي
أبي الـ
freshmen
أعود لأبي الذي جلس معي ما يقارب العشر أيام فيها ذهبنا لزيارة أصدقاء لنا في منطقة مجاورة ليومين، وفي العشرة أيام طبخ لي أبي أكلاً طيباً للغاية في مطبخ غرفة الفندق (سويت)، غريب هو أمر أبي والمطبخ، يطبخ بسرعة وكأنه يطبخ كل يوم، طبخ رز ودجاج وخضرة (فاصوليا، بطاطا، باذنجان، بصل) ، بدون بهارات إلا بعض الفلفل والملح، لكن كانت وجبة عجيبة! لم أدرك حينها أنها ستكون آخر وجبة جيدة لفترة طويلة، وفي العشرة أيام عزفنا شوية موسيقى وذهبنا إلى البحيرات التي هي بجوار منطقتي وشرينا ثلاجة لغرفتي في السكن الداخلي، (اضف المقارنة بين أبي وأمي وشراء الاشياء) لكن ما كان عجيباً في هذه العشرة ايام هو اندفاع وطاقة أبي الذي كنت أشعر في بعض الأحيان بأنه هو الطالب بحماسه وانطلاقته حتى في التعرف على الناس، فلديه موهبة خارقة في التعرف على البشر، عندما وصلنا الى المنطقة فتح دليل الهاتف وذهب الى حرف الألف وبدأ يقرأ اسماء العرب في المنطقة الأزادي، المزروعي، العدناني، فرفع الهاتف واتصل على أحدهم وكان اسمه الأول محمد،
ألو مرحبا، معاك فلان الفلاني، أنا آت مع ابني وياليت نجتمع نشوفك ونتعرف عليك
أهلا وسهلاً استاذ، غداً أراك في المسجد وبعد صلاة الجمعة نلتقي
خير ان شاء الله، نلتقي الساعة الثانية في المكان الفلاني
وأغلق أبي السماعة بقليل من الامتعاض.
وكان هذا اللقاء الذي جمع أبي بدكتور الجامعة العراقي، وبعدها لمست من أبي أن هؤلاء أشخاص باختصار من جماعة بن لادن قبل أن يصبح بن لادن بن لادن وقبل أحداث سبتمبر، ولكن أبي لم يقل لي شيء كعادته، ولكني التمست هذا منه، وتأكدت منه بعد ذلك بسنتين..
بعدها تركني أبي في B-Town، وقال لي أن أركز على دراستي ورحل.. وبقيت أنا وحيداً في غرفة السكن الداخلي في الطابق الثالث، غرفة رقم 343 كخطة فريق كرة قدم، (أنظر الى الزوايا وأتأمل) وكانت الغرفة صغيرة للغاية وفيها فراش ومكتب خشبي ودولاب ملابس وثلاجتي الصغيرة التي لم أجد لها مكاناً في الأيام الأولى إلا بعدما غيرت ترتيب الغرفة.
أصحاب جدد
كان اصدقائي في البداية الهنود أصدقاء نتن، وفي الاسبوع الأول أتاني نتن وقال لي:
You want to talk to someone who speaks Arabic?
قلت له: نعم بالطبع
فاذا به يأخذني إلى شخص طويل، عربي الملامح، يلبس نظارات غليظة فحياني:
اسمي رامي وانا من نيجيريا!
ظننته في البداية يداعبني، ولكنه وضح لي بأنه لبناني الأصل والفصل وبأن جده الأكبر هاجر بالخطأ إلى نيجيريا، والأحلى من كل هذا قصته التي كلمنا عنها رامي في أول حديث معه ومع طلبة أخر..
كان يشتكي بأنه لا يملك إلا هذا القميص الذي يلبسه ، فعندما سألناه عن السبب، بدأ بسرد قصة عجيبة غريبة صعب أن تنسى، يقول رامي أنهم في الطائرة حينما كانوا متجهين إلى نيويورك من نيجيريا -عن طريق لندن-، صرخت امرأة حامل في الطائرة، وأعلنت بصرخاتها موعد إطلالة مولودها على الطائرة، فلذلك اضطر قائد الطائرة أن يهبط اضطرارياً في احدى جزر أسبانيا حتى تكمل ولادتها، وأنه في الجزيرة ضاعت حقائب الركاب، ولا أعلم حتى هذه اللحظة إذا ما استرد رامي حقيبته أم لا..
رامي كان وما يزال من أطيب وأسذج المخلوقات التي مررت بها، كان رامي متعطش للتعرف على العرب، والالتقاء ببني جنسه، وكان يتكلم عن العرب بطريقة رومانسية، وعن فلسطين والقضية وما شابه، والآن سأتركه بعد بضعة أشهر وهو دائماً يردد " ** اخت العرب يا زلمة" خصوصاً بعد اغتيال الحريري، كانت سذاجة رامي تتضاءل يوماً بعد الآخر.. وهذا بعد أن قرأ واحتك بالطلبة واكتشف نفسه، حتى أنه في فترة من الفترات أصبح محرر الشؤون الدولية في جريدة الجامعة عندنا،
لم يكن رامي اللبناني الوحيد الذي تعرفت عليه في أيامي الأولى، شعور غريب عندما تعرف بأن شخص ما عربي وهو يعرف بأنك عربي ولا يكلم أحداً الآخر ،هذا كان الشعور المتبادل بيني وبين مازن.. اللبناني الآخر.
تعرفت على مازن عندما كان مع شمّه الإماراتية، قدمت نفسي لهم ومن بعدها تعرفت على مازن عن قرب وعلى شمّه أيضاً، ولكنا اقتربنا من بعض بشكل أكبر في مع أحداث سبتمبر، حيث كنا في حالة طوارئ كعرب في الجامعة خصوصاً وأن شمّه كانت محجبة، رغم ان حجابها في السنين المتبقية تضاءل شيئاً فشيئاً لأسباب تمردية عديدة.. يطول الحديث عنها.
الحادثة!
سبتمبر 11 الذي غير العالم حدث في ثاني شهر لي في الولايات المتحدة، أهناك أستقبال أفضل من هذا؟ كان الهاتف يرن ويرن ويرن، وأنا في سابع نومه كما يقال حيث إني لا أبدأ حصصي إلا بعد الحادية عشر ظهراً، المهم أني رفعت السماعة واذا بأخي يتصل بي من الكويت،
"_ _ _ _ ، من الصبح ندق عليك وينك! شفت شاللي صار؟!"
"لا والله.. شالسالفة"
"افتح التلفزيون!!!!"
فتحت التلفزيون ورأيت الطائرتان تتفجران في مجمع التجارة العالمي بنيويورك، صعقت! فعلاً شالسالفة!
في هذه الأوقات لم يعرف بعد من الفاعل ولماذا وكيف!
خرجت من الغرفة لأرى مالذي يحدث مع جيراني وإذا بي أسمع صرخات "شت شت شت" "فك" "داام" وأذكر بأنني في ذلك الصباح لمحت حبة شباب في مكان لا يحسد عليه، وأنني قبل أن أخرج من الغرفة حاولت أن أخفيها ولكن دون جدوى، فكرت حينها! حمدلله أن الأحداث حصلت الآن والكل مشغول بالتفجيرات لأن لا أحد سيلاحظ حبّتي! الإنسان مهما بلغت به المحن فهو دائماً يظن بأنه محور العالم، بالله من سيهتم بأمر تافه كهذا! هناك آلاف من الناس يحترقون في نيويورك! كم كنت سخيفاً حينها
خرجت وسألت جاري (بَن) عن الذي حدث وقال لي بأن الجيش الأحمر الياباني هو المدبر للتفجيرات، ثم قال لي أن لا أحد يعرف، ولكن سرعان ما انتشر الخبر، وشاعت الفضيحة، الإرهابيين كلهم عرب! ولا حتى واحد آسيوي يرقع، حينها بدأت المحنة، هناك اقتربنا كجالية عربية في السكن الداخلي وكنا عبارة عن أربعة أشخاص، مازن وشمه وسهام السعودية وأنا.. سبتمبر 11 غيّر العالم فكيف له ألا يغير حياتنا في هذه المدينة، خاصة بعد أن سمعنا بالاعتداءات على طالبة اندوينيسية محجبة في مبنى آخر في السكن الداخلي، وكانت ردة فعل الجامعة راقية جداً في هذه المسألة حيث دعت جريدة الجامعة بيوم الحجاب، حيث ارتدى عدد من الطالبات الأميركيات الحجاب تعاطفاً وتضامناً مع الاندونيسية المسكينة..
كلهم رحلوا
طبعاً بعد الأحداث كل العرب الذين تعرفت عليهم رجعوا إلى ديارهم وجلست أنا صامداً وحيداً، مازن أوّل من رجع، وأتذكر بأنه كان يتصل بأمه يومياً وكانا يبكيان على الخط، وكنت بصراحة أضحك من قلبي على هذا المشهد المأساوي الأقرب للمسلسلات المدبلجة، ولكني لم أتدخل، وبعد إلحاح أم مازن رجع مازن إلى لبنان ولم أستغرب هذه العلاقة بين مازن وأمه لأنه منذ أن تعرفت عليه وهو نظيف لدرجة مخيفة ومرتب ولبق لدرجة مريبة، حتى أنه كان يرتدي حذاء مختلف مع كل بنطلون، وكل الألوان دائماً متناسقة، وكان دائماً عندما يتحدث يلقي بمصطلحات فرنسية التي كانت تذوب البنات، وأنا أجلس بجانبه كالأبله بنعالي الذي يمشي مع كل بنطلوناتي..
أحبت مازن فتاة هندية تدعى غاوري، وكانت غاوري فظّة، اذا ارادت أن تقاطع شخص تقول له:
Shut Up!
وكان أبوها رجل تقليدي لا يرضى لها أن تخرج مع الرجال وأدخلها مدرسة بنات في الهند، الشاهد أنها أحبت مازن وكانت تلمز وتغمز له وتسأله أسئلة كـ:
If you like someone and you don’t know how to say it, What do you do?
وهكذا.. بخجل كانت تحبه، دائماً تقول له بأن حذائه جميل، والله زمن يا ناس..حذاء!! النساء مخلوقات عجيبة تدقق على الأحذية والآظافر، حتى قاع القدم !
ولكنها غاوري فضحت نفسها في يوم وداع مازن، لم تتمالك نفسها وبكت بكاء العمر في تلك الليلة والتاكسي ينتظر مازن في الخارج، يومها رأيت حقيقة الأفلام الهندية، (كان ينقصها كمنجات وايقاعات هندية وقليلاً من المطر).
قبل أن يرحل مازن، تركت له رسالة في شنطته دون أن يعلم، وكان عنوان الرسالة هو: "عندما يصبح المؤقت دائماً" كانت رسالة من القلب لأن مازن دخل القلب في هذه الفترة القصيرة، أما الآن فمازن يعمل في دبي وأنا قاربت على الرحيل، وغاوري تغلبت على حب مازن ووفقها الله بشخص هندوسي نباتي ملتزم اسمه سودين، وهذا من الأشخاص الذي كنت ألعب معهم كريكت وتينس طاولة في بداياتي هنا.. سودين شخص طيب وقوي الشخصية بطريقة غريبة، لأن وجهه يعبر عن العجز والضعف التام، له وجه مظلوم وهو ظالم، ولكن أعتقد أن غاوري وسودين هم أفضل شخصين لبعض، فغاوري تقول له "شت أب" متى ما أرادت أن تقاطعه رغم أنه لا يتكلم إلا فيما ندر وسودين سيكسر خاطرها بوجهه المسكين..
"الشلة" الأولى
ومن العرب الذين رحلوا في نفس فترة رحيل مازن عبدالله الشفقان القصير، قحطان طقّاق الشهم، ونوح سالم الصامت، وسعود جريبع الغريب، وحمد السكران، هؤلاء التقيت بهم بعد فترة من تعرفي على أصحابي الهنود، فقد كان مدخلي لهذه الشلّة السيد عبدالله الشفقان القصير، عبدالله الشفقان أتاني في الطابق الأول من السكن الداخلي وكان يمشي وكأنه رامبو رغم نحافته وقصر قامته وسألني اذ كنت عربياً فجاوبته، وبدا لي بأنه شخص محترم وحبيب رغم أن بعض علامات الاستفهام كانت تحوم حول قبعته الفرنسية التي لبسها بالمقلوب، و"الحفر" الذي يظهر "عصاقيله"، وأخيراً وليس آخراً عصاته! كان يحمل معه عصاة كانه شاوي.. وفعلاً أثبت مع الأيام أنه يستحق أن تؤخذ منه العصا ويأتي شاوي حقيقي ليضربه بالعصا لأن عقله كعقل البهيمة.. إليكم هذا النقاش في إحدى السهرات:
-البناب في أمريكا كلهم عاهرات!
-لحظة يا عبدالله ما يصير تقول جذي..ما يصير كلهم
-يا شيخ سفور، غير متحجبات!
-خلاص، كلهم "*حاب" عشانك
عبدالله أدخلني على السيد قحطان طقاق هذا الشهم، الله يذكره بالخير.. كان قحطان في أواخر عشرينياته وقد أتى لدراسة اللغة، وقد كان وضعه مشبوهاً لأنه أساساً لا يجلس مع أبناء بلدته الكثر في منطقتنا بالإضافة إلى أنه كان يعمل في التحريات في دولته (أي الاستخبارات) فتجربته في الحياة واسعة للغاية ومواضيعه ومغامراته مع اصدقائه لا تمل، ومنها قصة جمعة الخال وعضوه التناسلي التي سأحفظها لنفسي. وما يميز قحطان هو تعابير وجهه الطفولية، أتذكره الآن فابستم لا إرادياً، هكذا قحطان، ولكنه كان يشعر بأنه لم ينجز بأمريكا شيئاً مهماً بالنسبة له، فلقد قطع عهداً على أصحابه في بلده بأنه لن يرجع إلا بعد أن "يضبط" أميريكية، ولكنه عاد خائباً منكوس الرأس.. ففي أحد المرات أراد في الباص أن يتعرف على صبية أميركية فسألها عن اسمها فأجابته، ولأنه ضعيف جداً باللغة الأنجليزية أراد أن يكمل النقاش وسألها عن مستواها الدراسي، لعل وعسى "تلكش" معاه، فقال:
Are You Freshwoman?
طبعاً قحطان يقصد أن يسألها إذا كانت في السنة الأولى من الجامعة ولكن خانه التعبير، ورجع إلينا خائباً كعادته، كذلك الأمر ينطبق على فيصل جريبع، ولكن فيصل كان موفقاً للغاية وكان لعّيب مع البنات، وكان داكن البشرة، ربما ساعده ذلك.. دائماً يقول أن عشيقته لأغراض أكاديمية بحتة، "يا شيخ .. للغة" ولكن فيصل أكبر من هذه الأمور، فيصل رجل أيضاً في أواخر العشرينات، وواضح أنه أتى إلى المدينة للعب والمتعة والفرفشة. يقدر هذا الشخص العلاقات الانسانية وكان يحترمني ويبوح لي بأسراره وما يخفي وكنت أنا أبادل احترامه باحترام مضاعف، ولكن شيئاً ما كان مريب بفيصل جريبع..
في أحدى المرات كان مريضاً فتوجهنا إلى شقته، وإذا به على الأرض ملقى يرتجف ارتجافة غريبة، لم أر ارتجافة كهذه الا في برامج الشعوذة في الآ ر ت، يرتجف ويخرج لعاباً .. والله خفنا بشكل، فحلل السيد قحطان المسألة بأن الرجل دخله جني.. واستشهد قحطان بقصة خالته مع الجن واسهب، لكن فيصل تعافى في اليوم الآخر.. حتى هذه اللحظة لا أعرف ما وراء الرجفة ..
أما نوح سالم العماني الصامت، فهذا كل ما كان، صامتاً، ولكن كان مظهره يفتح النفس، عينان كبيرتان مكحلتان كأنه أحد ممثلي مسلسل الجوارح، ولكني لم أعرف الكثير عن نوح لأنه باختصار لم يتكلم أبداً، على عكسه أتى حمد السكران، الذي لا يتحدث إلا وهو مخمور لدرجة مقززة، ياخي اشرب، لكن لا تشرب 24 ساعة وتؤذينا، يبدو وكأنه كان يثأر لأهله وأجداده من الكبت بعدد كؤوس الخمر، رغم ذلك كان حكيماً ويعرف الكثير عن تاريخ القبائل والحروب وكانت هذه المواضيع لا تحلو إلا اذا كان مخموراً.
كانت تجربتي مع هؤلاء الخمسة رائعة ولا تنسى، وها أنا بعد أربع سنين أتذكرهم وأذكر معظمهم إلا عبدالله الشفقان بالخير..
ـ
قد يتبع
سنة أولى جامعة
وصول
مع اقتراب موعد عودتي للكويت ورحيلي عن مدينتي العزيزة هنا في الولايات المتحدة الأميركية ، اشعر بأنني سأترك منطقة ساهمت في إعادة صياغتي كانسان، ومرحلة من عمري جعلتني أنظر في المرآة لأراني انساناً جديداً بإيجابيات جديدة وسلبيات قديمةً، وايجابيات قديمة وسلبيات جديدة. في هذه اللحظة أخرج بطاقتي الجامعية من محفظتي وأرفعها لأرى صورتي وأنا ابن الثامنة عشر، بشعري القديم الذي حلقه لي "فاروق" بدينار ونصف في الكويت، والابتسامة التي تقول: "أنا أعرف كل شيء"، وفانيلة أديداس ذات المقاس الصغير التي ما زلت أحتفظ فيها، والحمد لله أني حتى هذه اللحظة أستطيع أن ألبسها ولو أني ربما سأكون أقل ثقة عندما ألبسها. لم يتغير جسمي كثيراً منذ تلك الصورة، لكن ثمة أمور كثيرة تغيرت ...
استقبلني أبي الذي كان في انتظاري في مطار عاصمة ولايتي بعد قضاء الصيف بأحدى المناطق الأميركية مع العائلة. الطائرة الداخلية التي وصلت بي إلى مطار ولايتي كانت صغيرة للغاية، وقيل لي قبل الدخول بأن علي أن أضع آلتي الموسيقية العزيزة على قلبي في الشحن لأنني لا أستطيع أن أدخلها داخل الطائرة الصغيرة، على عكس رحلتي من الكويت في الخطوط الجوية الكويتية حيث قال لي المضيف أن أضع آلتي خلف أحد كراسي الدرجة الأولى، وأعتقد بأن الأمر لو كان بيده لطلب مني أن أعزف له و"نقلبها سمرة" بين الأرض والسماء.
كان هاجسي الوحيد، عندما وصلت لمطار ولايتي هو :"ان شاء الله ما اكسروا عودي، ان شاء ما كسروه! اذا كسروه بكسر راسهم!" لم أفكر قط بلقاء أبي، أو بأني أصل إلى الولاية التي سأقضي فيها أربع سنوات من عمري، وأنني سأبدأ مرحلة جديدة من حياتي في هذه الولاية، لم أفكر إلا بعودي "ان شاء الله ما يكسرونه".. فور وصولنا أخذت العود من الشحن وتأكدت بأنه على ما يرام، وإذا بأبي يطل علي من خلف زجاج قاعة الاستقبال، وقد لمحته مبتسماً وهو يراني أتطمن على عودي، كان ذلك كله قبل سبتمبر 11 حيث كانوا يسمحون لغير المسافرين بالدخول إلى قاعة المسافرين ، قبل سبتبمر 11 كان الوضع في المطارات يختلف تماماً عن الوضع الحالي، حتى دخولي عن طريق مطار شيكاغو كان سهل وسلس للغاية، سألوني أين ستذهب وقلت لهم اسم مدينتي في، وكان هذا كل ما كان علي أن أفعله، كانوا طيبيين وسلسيين لأقصى درجة ..
المهم أنني التقيت بأبي حينها، ولم أره منذ شهرين تقريباً لأنه وامي واخوي واختي وخالتي وابنائها كانوا في الولايات المتحدة في اجازة صيفية مع جدتي للعلاج آنذاك في إحدى الولايات الغربية. كان ذاك الصيف في الكويت بالنسبة لي رائع، لأن البيت كان لي والسيارة لي وحدي (حتى إني دعمت .. دعمني ادريس البنغالي، بكى كثيراً في المخفر عندما زعق عليه المحقق، ولكن قصة ادريس طويلة جداً وهذا ليس محلها) ، وكنت أفعل كل شيء ولا شيء في ذلك الصيف، والحقيقة أنني لا أتذكر بأنني فعلت شيئاً مهماً في ذلك الصيف غير إجراءات ما بعد التخرج من الثانوي والتعرف الحقيقي على كلمة بيروقراطية، ولذلك فقد كان مميزاً جداً.
ركبت السيارة التي اجّرها أبي وكان الطريق إلى منطقتي يبعد ساعة تقريباً عن المطار، واكتشفت بعدها أنه يبعد أربعون دقيقة بدون أبي، وكان الطريق إلى مدينتي مقفر ريفي لامباني ولا مدن، لم أر إلا حقول الذرة، وأشجار كثيفة قبل الوصول الى المنطقة بقليل. وصلنا الى الفندق وارتحنا ليلتها.
الجامعة
في اليوم الذي بعده تفقدنا الجامعة التي كانت جميلة للغاية وقد رأيت جامعات غيرها في السابق في مدن أخرى، لكنها حتماً في المراكز الأولى بالنسبة لي من الناحية الجمالية والنافورات والتماثيل والأنوار والديكور والأهم من كل هذا .. البنات، سبحان من صور، البنات في هذه المنطقة موضوع آخر يحتاج إلى تفصيل، الأغلبية شقراوات، والباقي خليط جميل من الألوان الجميلة الراقية،.. أربع سنين انتطالع بالعيون أنا وهم، أربع سنين وحكينا بالعيون، لا أنا أعرف من تكون ولا هي تعرف من أكون، وهذا اجمل شيء هنا، فقط تتمتع بالجمال في كل الفصول، ولا تحتاج مبرر ولا تحتاج ترقيعة للاستمتاع بالجمال، على عكس ما يفعله شباب الكويت، يذهب إلى مطعم مشهور بـ"القــز" كل اسبوع لكن إذا سئل لماذا يذهب، يقول "والله أحب شوربتهم!" يا حبيبي استريـــــح! ما فيها مشكلة أنك تروح للتمتع والنظر، فكنا في بعض الأحيان نذهب إلى المكتبة بلا كتب! ونذهب إلى المسبح بلا مايوه! (لابسين هدوم طبعاً) كان بيت المتنبي واقعاً حين يقول: "زودينا من حسن وجهك ما دام .. فحسن الوجوه حال تحول" وقد زودونا في كل أوقات السنة، حتى وقت الامتحانات.. بارك الله فيهم.
كان الأورينتشن orientation نقطة البداية لي حيث التقيت بالطلبة الآتين من خارج الولايات المتحدة، في أول يوم تعرفت على الكثـــــير، ولم أتذكر إلا القليل بعدها، حتى عندما خرجنا من الأورينتيشن لحقني طالب هندي وكان مرحاً للغاية،
سألني: ما اسمك؟
فأجبته: _ _ _ _
وانت؟
My name is Nitin, I am from Oman
نتن! هذا اسمه، وكدت أن أغلق أنفي قرفاً، خجلت أن أقول له معنى اسمه باللغة العربية ولكني لم أتمالك نفسي، الشاهد أن نتن والعشرين هندي وهندية أصبحوا أعز أصدقائي في أيامي الأولى في B-town، حتى أنني لعبت معاهم الكريكت مرة واحدة، وتأكدت بعدها بأنني لن ألعبها مرة أخرى. والهنود معاشرتهم حميمة، يحتفلون بأعياد ميلاد بعض بحماس ويطلقون ألقاب على بعض.
ثم التقيت بأبي الذي قال لي بأنه سيأخذني إلى مكان عجيب بعد جلسات الاورينتيشن، فذهبت معه واذا بالمكان العجيب هو مكتبة المدينة وهي تختلف عن مكتبة الجامعة. قال لي: "كل ما تريد أن تعرفه بالدنيا ستعرفه هنا"، في مكتبة هذه المدينة القابعة في وسط اللاشيء، أذكر بأنه أخرج كتاب ضخم بعنوان أودي (السيارة) ولا أعلم ان كان من باب المداعبة أو الصدق أو صدفة قربه من الرف وقال لي: "اذا عندك أودي واختربت كل شيء تبي تعرفه موجود بهذا الكتاب" فضحكت، ثم استمر في حديثه عن المكتبات وقال بأنه التقى بالأمس مع دكتور عراقي من قسم الدراسات الشرقية في الجامعة وقد درّس هذا الدكتور في أواخر الستينيات في جامعة الكويت، وقد حدثّه الدكتور بأن مكتبة الجامعة تحتوي على ما يقارب الـ150 ألف كتاب عربي، وأن طابقاً قد خصص للكتب العربية، ولا تزال كلمة أبي ترن في أذني حين قال:
"_ _ _ _ .. هذي فرصتك!"
نعم .. هي فرصتي، أو حتى أكون أدق، كانت فرصتي
أبي الـ
freshmen
أعود لأبي الذي جلس معي ما يقارب العشر أيام فيها ذهبنا لزيارة أصدقاء لنا في منطقة مجاورة ليومين، وفي العشرة أيام طبخ لي أبي أكلاً طيباً للغاية في مطبخ غرفة الفندق (سويت)، غريب هو أمر أبي والمطبخ، يطبخ بسرعة وكأنه يطبخ كل يوم، طبخ رز ودجاج وخضرة (فاصوليا، بطاطا، باذنجان، بصل) ، بدون بهارات إلا بعض الفلفل والملح، لكن كانت وجبة عجيبة! لم أدرك حينها أنها ستكون آخر وجبة جيدة لفترة طويلة، وفي العشرة أيام عزفنا شوية موسيقى وذهبنا إلى البحيرات التي هي بجوار منطقتي وشرينا ثلاجة لغرفتي في السكن الداخلي، (اضف المقارنة بين أبي وأمي وشراء الاشياء) لكن ما كان عجيباً في هذه العشرة ايام هو اندفاع وطاقة أبي الذي كنت أشعر في بعض الأحيان بأنه هو الطالب بحماسه وانطلاقته حتى في التعرف على الناس، فلديه موهبة خارقة في التعرف على البشر، عندما وصلنا الى المنطقة فتح دليل الهاتف وذهب الى حرف الألف وبدأ يقرأ اسماء العرب في المنطقة الأزادي، المزروعي، العدناني، فرفع الهاتف واتصل على أحدهم وكان اسمه الأول محمد،
ألو مرحبا، معاك فلان الفلاني، أنا آت مع ابني وياليت نجتمع نشوفك ونتعرف عليك
أهلا وسهلاً استاذ، غداً أراك في المسجد وبعد صلاة الجمعة نلتقي
خير ان شاء الله، نلتقي الساعة الثانية في المكان الفلاني
وأغلق أبي السماعة بقليل من الامتعاض.
وكان هذا اللقاء الذي جمع أبي بدكتور الجامعة العراقي، وبعدها لمست من أبي أن هؤلاء أشخاص باختصار من جماعة بن لادن قبل أن يصبح بن لادن بن لادن وقبل أحداث سبتمبر، ولكن أبي لم يقل لي شيء كعادته، ولكني التمست هذا منه، وتأكدت منه بعد ذلك بسنتين..
بعدها تركني أبي في B-Town، وقال لي أن أركز على دراستي ورحل.. وبقيت أنا وحيداً في غرفة السكن الداخلي في الطابق الثالث، غرفة رقم 343 كخطة فريق كرة قدم، (أنظر الى الزوايا وأتأمل) وكانت الغرفة صغيرة للغاية وفيها فراش ومكتب خشبي ودولاب ملابس وثلاجتي الصغيرة التي لم أجد لها مكاناً في الأيام الأولى إلا بعدما غيرت ترتيب الغرفة.
أصحاب جدد
كان اصدقائي في البداية الهنود أصدقاء نتن، وفي الاسبوع الأول أتاني نتن وقال لي:
You want to talk to someone who speaks Arabic?
قلت له: نعم بالطبع
فاذا به يأخذني إلى شخص طويل، عربي الملامح، يلبس نظارات غليظة فحياني:
اسمي رامي وانا من نيجيريا!
ظننته في البداية يداعبني، ولكنه وضح لي بأنه لبناني الأصل والفصل وبأن جده الأكبر هاجر بالخطأ إلى نيجيريا، والأحلى من كل هذا قصته التي كلمنا عنها رامي في أول حديث معه ومع طلبة أخر..
كان يشتكي بأنه لا يملك إلا هذا القميص الذي يلبسه ، فعندما سألناه عن السبب، بدأ بسرد قصة عجيبة غريبة صعب أن تنسى، يقول رامي أنهم في الطائرة حينما كانوا متجهين إلى نيويورك من نيجيريا -عن طريق لندن-، صرخت امرأة حامل في الطائرة، وأعلنت بصرخاتها موعد إطلالة مولودها على الطائرة، فلذلك اضطر قائد الطائرة أن يهبط اضطرارياً في احدى جزر أسبانيا حتى تكمل ولادتها، وأنه في الجزيرة ضاعت حقائب الركاب، ولا أعلم حتى هذه اللحظة إذا ما استرد رامي حقيبته أم لا..
رامي كان وما يزال من أطيب وأسذج المخلوقات التي مررت بها، كان رامي متعطش للتعرف على العرب، والالتقاء ببني جنسه، وكان يتكلم عن العرب بطريقة رومانسية، وعن فلسطين والقضية وما شابه، والآن سأتركه بعد بضعة أشهر وهو دائماً يردد " ** اخت العرب يا زلمة" خصوصاً بعد اغتيال الحريري، كانت سذاجة رامي تتضاءل يوماً بعد الآخر.. وهذا بعد أن قرأ واحتك بالطلبة واكتشف نفسه، حتى أنه في فترة من الفترات أصبح محرر الشؤون الدولية في جريدة الجامعة عندنا،
لم يكن رامي اللبناني الوحيد الذي تعرفت عليه في أيامي الأولى، شعور غريب عندما تعرف بأن شخص ما عربي وهو يعرف بأنك عربي ولا يكلم أحداً الآخر ،هذا كان الشعور المتبادل بيني وبين مازن.. اللبناني الآخر.
تعرفت على مازن عندما كان مع شمّه الإماراتية، قدمت نفسي لهم ومن بعدها تعرفت على مازن عن قرب وعلى شمّه أيضاً، ولكنا اقتربنا من بعض بشكل أكبر في مع أحداث سبتمبر، حيث كنا في حالة طوارئ كعرب في الجامعة خصوصاً وأن شمّه كانت محجبة، رغم ان حجابها في السنين المتبقية تضاءل شيئاً فشيئاً لأسباب تمردية عديدة.. يطول الحديث عنها.
الحادثة!
سبتمبر 11 الذي غير العالم حدث في ثاني شهر لي في الولايات المتحدة، أهناك أستقبال أفضل من هذا؟ كان الهاتف يرن ويرن ويرن، وأنا في سابع نومه كما يقال حيث إني لا أبدأ حصصي إلا بعد الحادية عشر ظهراً، المهم أني رفعت السماعة واذا بأخي يتصل بي من الكويت،
"_ _ _ _ ، من الصبح ندق عليك وينك! شفت شاللي صار؟!"
"لا والله.. شالسالفة"
"افتح التلفزيون!!!!"
فتحت التلفزيون ورأيت الطائرتان تتفجران في مجمع التجارة العالمي بنيويورك، صعقت! فعلاً شالسالفة!
في هذه الأوقات لم يعرف بعد من الفاعل ولماذا وكيف!
خرجت من الغرفة لأرى مالذي يحدث مع جيراني وإذا بي أسمع صرخات "شت شت شت" "فك" "داام" وأذكر بأنني في ذلك الصباح لمحت حبة شباب في مكان لا يحسد عليه، وأنني قبل أن أخرج من الغرفة حاولت أن أخفيها ولكن دون جدوى، فكرت حينها! حمدلله أن الأحداث حصلت الآن والكل مشغول بالتفجيرات لأن لا أحد سيلاحظ حبّتي! الإنسان مهما بلغت به المحن فهو دائماً يظن بأنه محور العالم، بالله من سيهتم بأمر تافه كهذا! هناك آلاف من الناس يحترقون في نيويورك! كم كنت سخيفاً حينها
خرجت وسألت جاري (بَن) عن الذي حدث وقال لي بأن الجيش الأحمر الياباني هو المدبر للتفجيرات، ثم قال لي أن لا أحد يعرف، ولكن سرعان ما انتشر الخبر، وشاعت الفضيحة، الإرهابيين كلهم عرب! ولا حتى واحد آسيوي يرقع، حينها بدأت المحنة، هناك اقتربنا كجالية عربية في السكن الداخلي وكنا عبارة عن أربعة أشخاص، مازن وشمه وسهام السعودية وأنا.. سبتمبر 11 غيّر العالم فكيف له ألا يغير حياتنا في هذه المدينة، خاصة بعد أن سمعنا بالاعتداءات على طالبة اندوينيسية محجبة في مبنى آخر في السكن الداخلي، وكانت ردة فعل الجامعة راقية جداً في هذه المسألة حيث دعت جريدة الجامعة بيوم الحجاب، حيث ارتدى عدد من الطالبات الأميركيات الحجاب تعاطفاً وتضامناً مع الاندونيسية المسكينة..
كلهم رحلوا
طبعاً بعد الأحداث كل العرب الذين تعرفت عليهم رجعوا إلى ديارهم وجلست أنا صامداً وحيداً، مازن أوّل من رجع، وأتذكر بأنه كان يتصل بأمه يومياً وكانا يبكيان على الخط، وكنت بصراحة أضحك من قلبي على هذا المشهد المأساوي الأقرب للمسلسلات المدبلجة، ولكني لم أتدخل، وبعد إلحاح أم مازن رجع مازن إلى لبنان ولم أستغرب هذه العلاقة بين مازن وأمه لأنه منذ أن تعرفت عليه وهو نظيف لدرجة مخيفة ومرتب ولبق لدرجة مريبة، حتى أنه كان يرتدي حذاء مختلف مع كل بنطلون، وكل الألوان دائماً متناسقة، وكان دائماً عندما يتحدث يلقي بمصطلحات فرنسية التي كانت تذوب البنات، وأنا أجلس بجانبه كالأبله بنعالي الذي يمشي مع كل بنطلوناتي..
أحبت مازن فتاة هندية تدعى غاوري، وكانت غاوري فظّة، اذا ارادت أن تقاطع شخص تقول له:
Shut Up!
وكان أبوها رجل تقليدي لا يرضى لها أن تخرج مع الرجال وأدخلها مدرسة بنات في الهند، الشاهد أنها أحبت مازن وكانت تلمز وتغمز له وتسأله أسئلة كـ:
If you like someone and you don’t know how to say it, What do you do?
وهكذا.. بخجل كانت تحبه، دائماً تقول له بأن حذائه جميل، والله زمن يا ناس..حذاء!! النساء مخلوقات عجيبة تدقق على الأحذية والآظافر، حتى قاع القدم !
ولكنها غاوري فضحت نفسها في يوم وداع مازن، لم تتمالك نفسها وبكت بكاء العمر في تلك الليلة والتاكسي ينتظر مازن في الخارج، يومها رأيت حقيقة الأفلام الهندية، (كان ينقصها كمنجات وايقاعات هندية وقليلاً من المطر).
قبل أن يرحل مازن، تركت له رسالة في شنطته دون أن يعلم، وكان عنوان الرسالة هو: "عندما يصبح المؤقت دائماً" كانت رسالة من القلب لأن مازن دخل القلب في هذه الفترة القصيرة، أما الآن فمازن يعمل في دبي وأنا قاربت على الرحيل، وغاوري تغلبت على حب مازن ووفقها الله بشخص هندوسي نباتي ملتزم اسمه سودين، وهذا من الأشخاص الذي كنت ألعب معهم كريكت وتينس طاولة في بداياتي هنا.. سودين شخص طيب وقوي الشخصية بطريقة غريبة، لأن وجهه يعبر عن العجز والضعف التام، له وجه مظلوم وهو ظالم، ولكن أعتقد أن غاوري وسودين هم أفضل شخصين لبعض، فغاوري تقول له "شت أب" متى ما أرادت أن تقاطعه رغم أنه لا يتكلم إلا فيما ندر وسودين سيكسر خاطرها بوجهه المسكين..
"الشلة" الأولى
ومن العرب الذين رحلوا في نفس فترة رحيل مازن عبدالله الشفقان القصير، قحطان طقّاق الشهم، ونوح سالم الصامت، وسعود جريبع الغريب، وحمد السكران، هؤلاء التقيت بهم بعد فترة من تعرفي على أصحابي الهنود، فقد كان مدخلي لهذه الشلّة السيد عبدالله الشفقان القصير، عبدالله الشفقان أتاني في الطابق الأول من السكن الداخلي وكان يمشي وكأنه رامبو رغم نحافته وقصر قامته وسألني اذ كنت عربياً فجاوبته، وبدا لي بأنه شخص محترم وحبيب رغم أن بعض علامات الاستفهام كانت تحوم حول قبعته الفرنسية التي لبسها بالمقلوب، و"الحفر" الذي يظهر "عصاقيله"، وأخيراً وليس آخراً عصاته! كان يحمل معه عصاة كانه شاوي.. وفعلاً أثبت مع الأيام أنه يستحق أن تؤخذ منه العصا ويأتي شاوي حقيقي ليضربه بالعصا لأن عقله كعقل البهيمة.. إليكم هذا النقاش في إحدى السهرات:
-البناب في أمريكا كلهم عاهرات!
-لحظة يا عبدالله ما يصير تقول جذي..ما يصير كلهم
-يا شيخ سفور، غير متحجبات!
-خلاص، كلهم "*حاب" عشانك
عبدالله أدخلني على السيد قحطان طقاق هذا الشهم، الله يذكره بالخير.. كان قحطان في أواخر عشرينياته وقد أتى لدراسة اللغة، وقد كان وضعه مشبوهاً لأنه أساساً لا يجلس مع أبناء بلدته الكثر في منطقتنا بالإضافة إلى أنه كان يعمل في التحريات في دولته (أي الاستخبارات) فتجربته في الحياة واسعة للغاية ومواضيعه ومغامراته مع اصدقائه لا تمل، ومنها قصة جمعة الخال وعضوه التناسلي التي سأحفظها لنفسي. وما يميز قحطان هو تعابير وجهه الطفولية، أتذكره الآن فابستم لا إرادياً، هكذا قحطان، ولكنه كان يشعر بأنه لم ينجز بأمريكا شيئاً مهماً بالنسبة له، فلقد قطع عهداً على أصحابه في بلده بأنه لن يرجع إلا بعد أن "يضبط" أميريكية، ولكنه عاد خائباً منكوس الرأس.. ففي أحد المرات أراد في الباص أن يتعرف على صبية أميركية فسألها عن اسمها فأجابته، ولأنه ضعيف جداً باللغة الأنجليزية أراد أن يكمل النقاش وسألها عن مستواها الدراسي، لعل وعسى "تلكش" معاه، فقال:
Are You Freshwoman?
طبعاً قحطان يقصد أن يسألها إذا كانت في السنة الأولى من الجامعة ولكن خانه التعبير، ورجع إلينا خائباً كعادته، كذلك الأمر ينطبق على فيصل جريبع، ولكن فيصل كان موفقاً للغاية وكان لعّيب مع البنات، وكان داكن البشرة، ربما ساعده ذلك.. دائماً يقول أن عشيقته لأغراض أكاديمية بحتة، "يا شيخ .. للغة" ولكن فيصل أكبر من هذه الأمور، فيصل رجل أيضاً في أواخر العشرينات، وواضح أنه أتى إلى المدينة للعب والمتعة والفرفشة. يقدر هذا الشخص العلاقات الانسانية وكان يحترمني ويبوح لي بأسراره وما يخفي وكنت أنا أبادل احترامه باحترام مضاعف، ولكن شيئاً ما كان مريب بفيصل جريبع..
في أحدى المرات كان مريضاً فتوجهنا إلى شقته، وإذا به على الأرض ملقى يرتجف ارتجافة غريبة، لم أر ارتجافة كهذه الا في برامج الشعوذة في الآ ر ت، يرتجف ويخرج لعاباً .. والله خفنا بشكل، فحلل السيد قحطان المسألة بأن الرجل دخله جني.. واستشهد قحطان بقصة خالته مع الجن واسهب، لكن فيصل تعافى في اليوم الآخر.. حتى هذه اللحظة لا أعرف ما وراء الرجفة ..
أما نوح سالم العماني الصامت، فهذا كل ما كان، صامتاً، ولكن كان مظهره يفتح النفس، عينان كبيرتان مكحلتان كأنه أحد ممثلي مسلسل الجوارح، ولكني لم أعرف الكثير عن نوح لأنه باختصار لم يتكلم أبداً، على عكسه أتى حمد السكران، الذي لا يتحدث إلا وهو مخمور لدرجة مقززة، ياخي اشرب، لكن لا تشرب 24 ساعة وتؤذينا، يبدو وكأنه كان يثأر لأهله وأجداده من الكبت بعدد كؤوس الخمر، رغم ذلك كان حكيماً ويعرف الكثير عن تاريخ القبائل والحروب وكانت هذه المواضيع لا تحلو إلا اذا كان مخموراً.
كانت تجربتي مع هؤلاء الخمسة رائعة ولا تنسى، وها أنا بعد أربع سنين أتذكرهم وأذكر معظمهم إلا عبدالله الشفقان بالخير..
ـ
قد يتبع